روى هذه القصة أبو هريرة رضي الله عنه إذ سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم . فمن جريج هذا ؟
أنصت الرجال المتحلقون حول حبيبهم المصطفى عليه الصلاة والسلام ، وأرهفوا السمع ، وحبسوا أنفاسهم ، حين بدأ يحدثهم عن جريج العابد هذا ، فقال :
إن جريجاً كان رجلاً راهباً في صومعة له يعبد الله ، ويتبتل إليه ، انقطع عن الدنيا ، وأخلص وقته ونفسه لله تعالى ، وكانت صومعته على صخرة عالية في الجبل ، وتحتها كهف يأوي إليه أحد رعاة البقر ، فيَقيل ، ويُمسي .
جاءت أم جريج مرة وهو يصلي ، فدعته ، وكان عليه أن يجيب دعاءَها ، فقال في نفسه : أيهما أفضل يا ترى ؟ الاستمرارُ في الصلاة وأنت واقف بين يدي الله تعالى أم قطع الصلاة وإجابةُ دعوة الأم؟!! لم يكن يدري ما يفعل … إلا أنه آثر إتمام الصلاة رغبة في تمام الثواب … وسوف يفرغ لأمه يبرُّها … نعم لن يضيع الصلاة ؛.. وإرضاء الوالدة بعد ذلك أمر يسير ، وهو بذلك ينال أجرين ! هكذا فكر جُرَيْج ..
وعادت الأم تنادي : يا جريجُ؛ رُدّ عليّ يا بني ؛ أنا أمك أناديك ، فهلمّ إليّ .. إجابتي خير لك في الدنيا والأخرة …
لم يكن جريج يدري أن ترك النوافل والمبادرة إلى إجابة والدته أفضل القرُبات عند الله ، فعزم أن يستمر في الصلاة .. ولا شك أن الله يعلم أن جريجاً يحب والدتَه ، ويودّ بـِرّها ، ولكنّه في الصلاة ! – والصلاة وقوف بين يدي الله – وهل أفضل من الوقوف بين يدي الله سبحانه ؟!
إنه ليس عاقـّاً ، وسيجيب والدته حين يفرغ من صلاته … هكذا اجتهد للمرة الثانية . وحين نادته مرة ثالثة وأخيرة فلم يردّ وآثر الاستمرار في الصلاة ، فأبطا عليها ، بل لم يجبها قالت حزينةً دامعة العينين متأثرة بصدّه -المؤقت لها – وفي سَورة غضبها : لا أماتك الله يا جُرَيجُ حتى تنظر في وجه المومسات .
وجه المومس ليس فيه طهر ولا نقاء ! دنس الزنا يُذهب رُواءَه ، ويُطفئ نورَه ، ويترك عليه مسحة من سواد تنفر منه النفوسُ الصافية والقلوبُ المؤمنة ، وتستعيذ منه الأرواحُ الشفافة والأفئدةُ الطاهرة…. وأين يرى المومساتِ وهو لا يدري بما يجري حوله ؟ ! إنه لا يخرج من صومعته إلا لِماماً .
لم تكن الأمّ تريد أن يُصيبَ ولدَها مكروهٌ ، ولكنْ سبق السيفُ العَذَلَ ، وسبق لسانُها إلى الدعاء . وكأن دعاءها قد وجد أذناً من الله سميعة … انصرفت الأم بعد أن دعتْ … ونسيتْ .. ولكنّ الله لا ينسى ، ولم يكن لينسى دعاء الأم ، فلا بد أن يعاقَبَ العاقّ جزاءً وفاقاً … ولكنْ كيف؟!
تذاكر بنو إسرائيل جُريجاً ، وعجبوا من كثرة عبادته وشدّتها ، وقَصَده الناسُ من كل حَدَب وصوب، فذاع صيتُه ، وتدافعوا إلى صومعته يلتمسون بركتَه ، ويسألونه أن يدعوَ لهم .
وكانت امرأة بغيّ يُتمثّل بحسنها ، قالتْ : إن شئتم لأفتِنَنّه !.
قالوا لها : لا تستطيعين ، إنه لا يلتفت إلى النساء .
قالت متحدّية : ومنذا يقف أمام جمالي وإغرائي ؟!
قالوا : إن كنت واثقة بنفسك فافعلي .
تزينت له ،وحملها الشيطان على جناح الفتنة إلى صومعة جُريج ، وجهدتْ في التعرّض له ، فتمنّع عليها ، وجدّتْ في إغوائه ، فاستعاذ بالله منها ، حاولت بكل فتنتها ومكائدها أن يسقط في مصائدها فارتدّت خائبة ، فلما شربت من كأس اليأس وسقطت في تحديها – فليس كل الناس سواء = نزلت إلى راعي البقر في كهفه أسفل الصومعة ، فمكّنته منها . .. أسلمت راعي البقر نفسها وهو الذي لايأبه له أحد ، ولا يملأ عينَ من يراه ، وهي الجميلة الفاتنة التي يخطب الكبراء ودّها ويركعون تحت قدميها ، ويبذلون أموالهم كي ترضى عنهم فيظفروا بها ! إن تمنّع الراهب أحبطها وجرح كبرياءها ، فارتمت عند أول لاقط لها حنقاً من الراهب وشعوراً أن هناك من يريدها ، ويسارع إليها ..
إن المومس حين زنا بها الراعي حملت منه ، ثم ولدت صبياً يجهل الناس أباه ، فمن أبوه يا ترى ؟ لم تذكر المرأة اسم الراعي ، فهو أبو ابنها الذي تحبه وأباه ، ولا ترضى العقاب للراعي الذي ارتبطت به ، فأثمر هذا الارتباط الخاطئ ولداً . إنها تريد إبعاد التهمة عنه لتوقع بمن مرّغ كبرياءها ، ولم يلتفت إلى إغرائها وفتنة جمالها . .. ووجدت الفرصة سانحة ، فقالت أمام الملك : إنه جُريج ؛ ذلك الذي يلبس مسوح الرهبان ، ويتستر وراء سياج العفاف ! !..
وأبلس القوم … جريجٌ يفعل هذا ؟! أمن المعقول أن يكون ظاهره غير باطنه؟! وهل يمكن لهذا الرجل الصالح أن يقع في الزنا ؟! … ويتهامس القوم غير مصدّقين .
قال الملك مستغرباً : أصاحبُ الصومعة؟!
قالت : نعم ؛ ألم يرني أحدكم تلك الأيام أختلف إلى صومعته؟
لا شك أن بعضهم رآها تقصد الصومعة في أوقات مختلفة .. لا بل تقصد مما تحت الصومعة إلى الراعي … وأنّى لهم أن يعرفوا الحقيقة ؟
ثار الناس وتصايحوا .. وغضب الملك ، وازداد غضبه .. لماذا ؟ لأنه فوجئ بمن يزني وهو متزيّ بزيّ الصالحين . ..
وفي سورة غضبه أمر أتباعه بهدم الصومعة ، وجر جريج مهيناً إلى مجلس الملك . ففعلوا ، وربطوا يديه بحبل إلى عنقه كما يُفعل بالمجرمين ، وضربوه وأهانوه …
ومرّ في طريقه على المومسات ، فرآهنّ يبتسمن وهنّ ينظرن إليه في الناس . وصدقتْ دعوةُ أمه فيه ، فقد رآهنّ يشمتن به ، ويهزأن منه ، وكأنّهنّ يقلن في أنفسهنّ : تدّعي الصلاح جهراً ، وترتكب الموبقات سرّاً ؟ فنحن إذن أطهر منك ،،،، سرُّنا كعلانيتنا .
قال جريج متمتماً : حسبي الله ، ونعم الوكيل … اللهم أنقذني مما أنا فيه ، وأعنّي على برّ أمي .
قال الملك : أعرفتَ ما تزعم هذه المرأة ؟
قال : وما تزعم ؟
قال الملك : تزعم أن ولدها منك .
قال جريج : أنتِ تزعمين ذلك ؟!
قالت : نعم ؛ .. يا ويلها إنها تكذب ، وتصر على الكذب ، وتودّ في سبيل الراعي ونفث حقدها أن ترمي به في المهالك .
قال جريج : أين الصغير ؟
قالوا : هو ذا في حُجرها .
قال : دعوني حتى أصلّي ، فما أقرب الإنسان إلى الله وهو ساجديسترحمُه ، ويستنقذُه ، ويسكب العبرات في حضرته ، ويبتهل إليه سبحانه ، فهو كاشف الضر ، ومنجي الصالحين .
إن الله تعالى بعد أن أخذ بحق أمه وأجاب دعاءَها لم ينسَ عبادةَ جريج ولا صلاحه . وهو سبحانه يعلم مقدار حب جريج أمَّه .. وأنه اجتهد ، فاخطأ . ولعلّ في هذا درساً وعبرة أيما عِبرة . فشاء – سبحانه – إنقاذ جريج ورفع منزلته ، فليس الظلم من صفاته سبحانه جلّ وعلا .
أقبل جريج بعد أن فرغ من صلاته حتى وقف على الطفل ، وطعنه بإصبعه في بطنه ، وسأله على مسمع من الملك وأركان ملكه واثقاً من نصر الله له ورحمته به : من أبوك ؟
وهنا كانت المفاجأة التي وجفت لها القلوب ، وتسمرت لها الأقدام … لقد أنطق الله الطفل ابن الأيام ، فقال : إنه الراعي … راعي البقر الذي استغل المكان الطاهر في آثامه ونزَواته ، وخلا بأمه ، فكان الطفل ثمرة الزنا .
وانقلب الأسير حراً ، والمهينُ عزيزاً .
أسف الملك لسوء ظنه بالراهب الطاهر ، وندم على إهانته إياه ، ورغب معبراً عن ندمه هذا أن يعيد بناء الصومعة من ذهب …. صومعة من ذهب؟! .. إن بريق الذهب يُذهب بريق القلوب .
قال : لالا ، لا أريدها من ذهب .
قال الملك : من فضة إذاً .
قال : لالا ، إن لمعان الفضة يحجب الحقيقة عن القلوب .
قال الملك : ممَّ نجعلها إذاً ؟ .
قال جُريج : ردّوها كما كانت ، فهذا أدعى إلى السكينة والصفاء .
إن بهرجة الدنيا تشغَل القلوب ، وتُثقل الأرواح ، وتقيّد النفوس .
ثمّ تبسّم جُريج … وعجب الحاضرون إذْ تبسّم . لا بدّ أن أمراً ما استدعى الابتسام …
نعم ، لقد أدرك جُريْج أن الذي أدّى إلى هذا الموقف العصيب الذي كاد يعصف به لولا أن تداركته رحمة ربه دعوةُ الأمّ أن يرى وجوه المومسات …. ولم يكن بدّ ٌ أن يراها .
فدعوة الأم أحقّ أن تُجاب .
متفق عليه
رياض الصالحين ، باب فضل ضعفة المسلمين ، والفقراء الخاملين .
الأدب المفرد للبخاري ص20 الحديث 32