ثواب العمل الصالح

المشهد الأول :
انتصف النهار ، واشتدّت حرارة الشمس ، كان الهواء ساكناً سكوناً عجيباً غابت فيه النسمة ، فازدادت مشقة الطريق ، كان وحده يمشي ، يتقاطر جبينه عرقاً ، وينبثق من مسام جلده ، فتمتصه ثيابه حتى بدت مبللة تكاد تُعصر…
شعر بالعطش الشديد ، ولكن أين الماء ؟ لم يبق معه منه شيء… حرّك قِربته ، فلم يسمع ارتطام الماء فيها ، وضع فوّهتها على فيه فلم تبِضّ بقطرة … بدا لعابه يقِل ، وفمه يجف ، وشفتاه تتشققان …
بحث حوله فهُيّئ له أن رأى ماءً … فلما قصده لقيه سراباً .. بدأت عيناه تريه كل شيء أمامه أنهاراً سَرعان ما تتبخر حين يُسرع إليها … سأل الله حُسْن الختام … وحين كاد يسقط على الأرض رأى على مدىً قصير منه حافة بئر … يا ألله ؛ أحقاً ما يراه أم هو يتخيّل ؟
شد عزمه ، وبادر بخطاً ثقيلة نحوه … وصله وأطلّ عليه فرأى صورته . ورمى فيه حجراً فأسمعه صوت ارتطامه بالماء … نزل وشعر بالبرودة تدغدغ جسمه … لقد وصل إلى الماء … ووضع فمه على صفحته ، وعبّ منه كثيراً حتى ارتوى …
لم يشعر بعد ذلك بشيء … أمَرّ عليه وقتٌ طويل وهو نائم ؟ إنه لا يدري … لكنه أحسّ بالعافية تسري في بدنه ، لقد عادت إليه الحياة ” وجعلنا من الماء كل شيء حيّ ” .. وقبل أن يخرج من البئر شرب كثيراً حتى كاد الماء يخرج من عينيه وأذنيه وأصابع يديه !! لكنه كان قد رمى قربته في الطريق فأضاع فائدة كبيرة .
لم يبتعد عن البئر كثيراً حين رأى كلباً يلهث ، يأكل الثرى من العطش ، إنه قرب الماء ، لكنْ لا يستطيع النزول إلى البئر . .. لقد بلغ العطشُ بالكلب مثل الذي كان بلغ منه ، فأخذته الرأفة ، وهمّ أن يسقيه ، فماذا يفعل ؟! إن الكلب لا يستطيع النزول إلى الماء ، وليس معه قربته أو إداوته ، ليس معه شيء يحمل فيه الماء ليسقي الكلب العطشان . يجب أن يسقيه ، فماذا يفعل ؟
هداه تفكيره بل هداه الله تعالى حين رأى رحمته بالحيوان إلى أن ينزل البئر ، فيخلع حذاءه ويملأه ماءً ويحمله بفمه ، ويصعد، فيسقي الكلب . … أعاد ذلك مرات ، حتى رأى ذلك الحيوانَ الأعجم ينصرف عنه مبتعداً وينظر إليه نظرات ملؤها الاعتراف بالجميل والفضل والشكر الجزيل … فقد أنقذه من الموت .
حمد الرجل ربه لنفسه ، وحمِده لهذا الحيوان ، … ولم يكن الله سبحانه غافلاً عما فعله الرجل ، فأكرمه غاية الإكرام ، ورحمه واسع الرحمة ..
أتدرون كيف رحمه وكافأه؟ لقد أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن الله غفر له كل ذنوبه ، وأدخله الجنة دون حساب .
يا ألله ، يا ألله ، يا ألله ؛ أنت الرحمن الرحيم .. اغفر لنا ذنوبنا ، وعافنا واعف عنا . يـــارب .
متفق عليه
رياض الصالحين / باب في بيان كثرة طرق الخير

المشهد الثاني :
إنه مسلم يحب الخير لإخوانه في العقيدة ، ويرجو لهم السلامة ، ويسأل الله من كل قلبه أن يحيا المسلمون في أمن وأمان ، لا يعكر صفوَهم كدرٌ ، ولا يَشوب حياتهم شائبةٌ ، فالمجتمع المسلم حين يكون متحابّاً متآلفاً ولُحمة واحدةً يكون قوياً متماسكاً …
لقد رآه الرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة ، ولمّا يعملْ بعدُ العملَ الذي يؤهلُه أن يكون هناك في رَبَضِها ، وفي رحمة الله وفضله ، ينعم فيها بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعتْ ، ولا خطَر على قلب بشر .
بلى إن الله تعالى يُدخل المسلم الجنة على عمله الخالص ولو كان قليلاً ، بل إنه يدخله الجنة على نيّتة الخالصة الصادقة ، ولمّا يعملْ بها .
وكانت نيّة هذا المسلم صادقة خالصة لوجه الله الكريم ، وكان عملُه يدل على ذلك . وهل أفضل من أن يكون المسلم في خدمة إخوانه يهتم بأمنهم وسلامتهم؟!
لقد مرّ بغصن شجرة على ظهر طريق ، أشواكُه تؤذي المسلمين ، يمر أحدهم دون أن ينتبه ، فيخمشه الغصن ، أو تلسعه أشواكُه ، أو تمزّق ثيابه ، أو ينتبه له ، فيتنحّى إلى زاوية ضيقة ، ولعلّ وراء الغصن حشرة سامّةٌ ، أو فوقه تغتنم دُنُوّه منها ، فتلسعه .
فكّر في كل هذا ، فعمد إلى الغصن ، فقطعه ، وحمله بعيداً عن الطريق ِ طريق ِ المسلمين . فاستحق بذلك رحمة الله تعالى ، ورضوانه وجنّةَ الخلد ونعيمها .
رواه مسلم

رياض الصالحين / باب في بيان كثرة طرق الخير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.